top of page

اذاعة الأغاني- ذكريات أغنية "ألف ميل" لفنيسا كارلتن

صورة الكاتب: بثينة اليوسفبثينة اليوسف

تاريخ التحديث: ٢٥ فبراير



اهدتني صديقتي المقربة في نهاية العام الماضي كتاب "اذاعة الأغاني" لعمر طاهر، و كتبت عليه اهداء لطيف جداً تذكر فيه انها تتمنى ان هذا الكتاب سيشجع الموسيقارة الصغيرة بداخلي.


و لكن الحقيقة انه شجع الكاتبة الـ"ليست صغيرة أبداً" بداخلي، فعمر طاهر في هذا الكتاب سرد ذكرياته مع بعض الأغاني بشكل ممتع و خفيف، قرأته و انا اسمع كل اغنية ذكرها، فتعرفت على أغاني أحمد عدوية و نور الهدى و أحمد فكرون و علاء عبدالحق و غيرهم، و كانت رحلة الى الثمانينات و التسعينات مليئة بالحنين، و إن كان الكثير من الأغاني لا اعرفها لكن الألحان مألوفة جداً لتشابهها في تلك الحقبة الزمنية.


و بعدما انهيت الكتاب، فاجأتني لوغاريثمات اليوتيوب باقتراح اغنية أثارت فيني الكثير من الذكريات و هي اغنية "ألف ميل" لفانيسا كارلتون الصادرة عام ٢٠٠٢.








كان صيف عام ٢٠٠٢ و كنت على أعتاب المراهقة، في ذلك الوقت كان لدينا منزل صيفي في بيروت، بالتحديد في جبل برمانة الواقع في احد اطراف بيروت، بيتنا يقع في اسفل طريق منحدر او "جورة" باللهجة المحلية بجانب ما يسمى الان "مربع برمانة"، و هي فعلاً شقة "واقعة" لأن النزول اليها هو تمرين رياضي شاق،دعك من الصعود منها الى الشارع فذلك يعدك بتمزق عضلي لا محالة!

على يسار الجورة كانت كنيسة السيدة و في نهايتها توجد بناية واجهتها من الحجر الأبيض الذي يميز العِمارة في تلك المدينة العريقة، شقتنا كانت في الدور الثاني، بالرغم من مشقة الوصول اليها كانت شقة جميلة بشرفة تطل على غابات الجبل و في الأفق نرى مدينة بيروت و من ورائها البحر، منظر خلاب لا يُمل ابداً و لكنه غير مسلٍ لطفلة في عمري!


صورة من برمانة تشبه مطل شرفتنا الى حد كبير
صورة من برمانة تشبه مطل شرفتنا الى حد كبير

يسكن في ذلك البيت محدثتكم بالطبع مع اخوين صغيرين و اخت تبلغ من العمر سنتين بالإضافة لوالدينا، كنت في ذلك الوقت طفلة واثقة جداً بنفسها،شديدة الإستقلال -او هكذا كنت أشعر- و احب الخروج لوحدي مع اخويّ و لا أبالي شيئاً، هذا يعني انه لا يمكن حبسي في مكان واحد او اصطحابي في نزهات هادئة لتأمل الطبيعة، لأن مشاعر الملل تفور في داخلي مثل البركان ان لم يكن هناك شيء مسلٍ في تلك النزهات.

المشكلة انه في كل صيف تطول اقامتنا في ذلك البيت الصيفي حتى نسأمه نحن الأطفال و تبدأ المشاكل بيننا، لذا قرر والداي ان يأخذاني انا و اخويّ (بدون اختي طبعاً لصغر سنها) الى معسكر صيفي في مدرسة "برمانة الثانوية" او Broumana High School. و التي تبعد عن بيتنا ٢٠ دقيقة مشياً على الأقدام.


وصلنا الى المدرسة صباح صيف حار -اعتقد انه كان شهر يونيو- و استقبلنا موظفي المدرسة بحفاوة في مبنى الادارة الموجود عند المدخل ثم اخذونا في جولة حول المدرسة.


ما اعتقد انه كان مبنى الإدارة و الحصص التعليمية (المصدر خرائط غوغل)
ما اعتقد انه كان مبنى الإدارة و الحصص التعليمية (المصدر خرائط غوغل)

كنت متهيبة جداً منها، فهي مدرسة ضخمة و مفتوحة بمبانٍ متناثرة، تقع على سفح جبل و يصل بين مبانيها في الهواء الطلق سلالم كثيرة ، في البداية مبنى الادارة و فصول الدراسة، بعده ننزل درجاً الى ساحة في الوسط، و بعدها درج اخر الى منطقة حمام السباحة ثم اخر الى ملعب التنس و اخر الى ملعب كرة القدم.



سلالم المدرسة و المسبح (من خرائط غوغل)
سلالم المدرسة و المسبح (من خرائط غوغل)
المزيد من السلالم (من خرائط غوغل)
المزيد من السلالم (من خرائط غوغل)
و لا نهاية للسلالم (من خرائط غوغل)
و لا نهاية للسلالم (من خرائط غوغل)

ساحة ملعب كرة القدم و جدار التسلق و الانحدار(خرائط غوغل)
ساحة ملعب كرة القدم و جدار التسلق و الانحدار(خرائط غوغل)


و لم اكن اعلم ان هناك سلالم اضافية تؤدي بنا الى منطقة "المدرسة الداخلية"، و هي المهاجع التي ينام فيها الأطفال طوال فترة المعسكر. عندما اخذني اهلي الى هناك كانت نيتهما ان اكون في المعسكر النهاري مع أخويّ، و لكن عندما علموا عن المعسكر الداخلي قررا ان يسجلاني فيه لوحدي، لأنه بحسب العمر كنت انا الوحيدة الصالحة لأن انام في ذلك المعسكر، و سأرى أخويّ يومياً في المعسكر النهاري ثم يعودان للبيت في نهاية النهار و أبقى انا هناك.


اعتقد ان والداي سئما منا جميعاً و من إزعاجنا و طاقتنا اللامنتهية، و كانا يودان ان ينعما بقسط من الراحة، و من موضعي هذا الان -كأم لطفلين- لا ألومهما ابداً في اختيارهما هذا، لأنه حلم حياتي الان ان اشرك اطفالي في معسكر مشابه و استمتع بالقليل من الوقت الهاديء. لكن في ذلك الوقت بالطبع هجت و غضبت كأي مراهقة تقليدية تحترم تغيرات عقلها و هرموناتها و تلبي رغباته بالانفعال و الزعل، لكن امي اقنعتني انها تجربة قد تكون ممتعة، و بالفعل كان هذا أصوب قرار اتخذه والداي، و أصبحت هذه التجربة من أفضل تجارب حياتي التي لم اعد بعدها كما كنت، تجربة مفصلية غيرت شخصيتي تماماً للأفضل!!



مهجع الفتيات (من موقع مدرسة برمانة)
مهجع الفتيات (من موقع مدرسة برمانة)


 

بعد أيام اخذت شنطة ملابسي و ذهبت للمعسكر، قابلني مدير المعسكر الداخلي "اعتقد ان اسمه كان ربيع" و قدمني الى أمينة مهجع الفتيات و هي فتاة لبنانية جميلة ذات شعر غزير و مجعد جداً اسمها "برناديت"، اخذتني و عرفتني على المهجع، و طلبت مني ان اختار سرير لي في غرفة بها ثلاثة أسرة حديدية صغيرة، كان معي في الغرفة فتيات من جنسيات متعددة و لكن هناك فتاة واحدة انسجمت معها جداً و اصبحت صديقتي المقربة و هي "هيفاء الملحم"، كانت فتاة سعودية بملامح جذابة و بشرة سمراء جميلة، كانت خفيفة الظل جداً و بلمح البصر اصبحنا صديقتين مقربتين.


المعسكر كان تجربة مختلفة تماماً لطفلة لم تعش بعد عصر الإنترنت، في ذلك الوقت كنا نسمع و نردد كلمات قديمة مثل "عولمة" و "العالم قرية صغيرة" و بالرغم من ذلك لم اقابل في حياتي كلها أطفال من الكويت مثلاً غير الذين يظهرون على شاشة التلفاز، و لكن هذا المعسكر عرفني على العديد من الأطفال من الكويت و مناطق عربية أخرى، قربني منهم و تعلمت الكثير من المهارات الاجتماعية. كان اختلاطي بأشخاص مختلفين تماماً عن محيطي الصغير في دولة مختلفة له تأثير عجيب علي، و كأنني كنت عجينة راكدة وُضعت لتتخمر و جاء المعسكر فكب علي الفانيلا و السكر و عجنني و شكلني و قطعني الى قطع كعك بأشكال مختلفة و نكهات جميلة، كنت اتحدث مع الأطفال هناك بمهارة أبرع فيها منذ الطفولة و هي "التحدث بلهجات مختلفة"، زاد محصولي اللغوي و تعلمت أيضاً تعابيراً عربية جديدة علي تماماً مثل التعبير اللبناني "بكرة ع بكرة" الذي جعلني مشدوهة، ماذا يعني ان يكون بكرة على بكرة؟ و اكتشفت برناديت حيرتي و كادت ان تشرق بضحكتها و هي تشرح لي انه يعني "غداً في الصباح الباكر"!


في المعسكر جربت الكثير من الرياضات الغريبة علي، لعبت كرة السلة و تسلقت جدار و انحدرت منه بحبل و ركبت سيارات السباق Carting، و مارست ما أحب أيضاً: ركضت كثيراً و سبحت و رسمت بالألوان الأكريليكية على الحائط، و أمتع اللحظات كانت في الليل عندما يجتمعن الفتيات في شرفة المهجع لنتسامر و بعدما يذهبن جميعهن للنوم أبقى انا أقرأ "مرتفعات ويذرنج" لإيملي برونتي، و هو الكتاب الوحيد الذي احضرته معي في شنطتي، أجلس في هدوء لاكمل كتابي و هواء صيف جبال بيروت العليل يهب محملاً برائحة الأشجار، تأتي برناديت كعادتها كل ليلة لتطفىء الضوء ثم تتوقف لتقول بثينة أنتِ فتاة غريبة جداً، لم ارى طفل يقرأ بهذا النهم من قبل، لكن هذا مميز و اتوقع لك الكثير في المستقبل!


بالطبع لا أنسى كلماتها هذه أبداً، لأنه بالرغم من اني -في ذلك العمر- كنت ألتهم الكتب التهاماً في كل مكانٍ و زمان الا ان لا احد يهتم او يتحدث عن عادتي حتى اعتقدت انها طبيعية و لا تحمل أي نوع من التميز، بل أنها كانت محط تندر من بعض من حولي لأنني أقرأ و "اتفلسف عليهم"، و قد كنت فقط أنقل لهم ما قرأت، حتى اشارت لهذه العادة انسانة لا تعرفني، فشعرت حينها -و لأول مرة- انها قد تكون فعلاً خصلة جيدة، و يبدو انني كنت فتاة مميزة بطريقة ما، من يدري!


 

كان هناك الكثير من الرحلات مع المعسكر، أخذونا الى السينما و مراكز الألعاب مرات عديدة، و في مرة كانت هناك رحلة الى مخيم في غابة (او ما اعتقد انه غابة)، نبيت في خيام تحت الأشجار و نشوي في الطبيعة، قبل الرحلة قررت انا و هيفاء ان نخرج لشراء بعض الأغراض، اخذنا الإذن لنخرج و ذهبنا مشياً على الأقدام الى سوق قريب، و عندما كنا نصعد السلم الكهربائي الى الدور الثاني، صدحت مكبرات السوق بأغنية مميزة "making my way down town, walking fast faces past and I'm home now" و فسألت هيفاء: تعرفين اسم الأغنية؟ جاوبتني بالنفي، و طلبت مني ان استعجل، و انا مشغولة احاول ان التقط الكلمات التي اعجبتني جداً لأسأل عنها البنات في المعسكر، اشترينا ما نحتاجه، و لا اذكر بالضبط ماكان ذلك الشيء و لكنه كان شيئاً ثقيل و كنا نتعاون على حمله، لعلها كانت خيمة او مفرش للتخييم، في طريق عودتنا كنت اردد اللحن حتى لا أنساه، و فجأة أحسست بحاجة ملحة لإستخدام دورة المياه فوراً، لم نجد حولنا مكاناً مناسباً لذلك، و هذا جعلنا نضحك بشكل هستيري و انا مازلت اردد اللحن و احاول الا استسلم للضحك و لا لإلحاح نداء الطبيعة ، وصلنا الى المعسكر و هرعت لدورة المياه و بعدها سألت كل من أعرفهم عن الأغنية و لم يتعرف عليها أحد للأسف!


 

عدت للرياض و اللحن عالق في مخي، تلح على تلك الأغنية المجهولة، بلا اسم و لا حتى صوت معروف، مع الزمن تبخرت من ذاكرتي الكلمات التي اجتهدت لاحفظها و لم أعد اذكر سوى "تن تنن تن تن" تلك الموسيقى المميزة في بداية الأغنية.


مرت السنوات، و ذهبت في يوم الى مركز تسوق "الفيصلية" مع قريبتي، و كان في الدور الأخير محل تسجيلات موسيقية، ربما "روتانا" ، و كان لديهم "تكنولوجيا" جديدة في ذلك الوقت، و هي سماعات معلقة على الأرفف، متصلة بمشغل أقراص يشتغل عندما تضع السماعات على اذنيك، كنت اجربها انا و قريبتي بكل استمتاع، و عندما وضعت احدى السماعات على أذني سمعت ذلك اللحن الذي سكن رأسي مثل الشبح لسنوات، شهقت و قفزت من الفرحة و قلت - او بالأحرى صرخت لأن صوت الموسيقى عالٍ و لم أضبط حدة صوتي- لقريبتي:وجدتها وجدتهاااا!

و كأني أرخميدس عندما صرخ في المغطس معبراً عن فرحة اكتشافه قانون الإزاحة، و لكن محدثتكم ليست بتلك العبقرية فما وجدت سوى أغنية بحثت عنها لسنوات، و قد كانت الأغنية مختبئة في قرص بداخله مجموعة "أغاني مفضلة" او شيء من هذا القبيل، لم أتخلى عن كنزي الثمين بالطبع، فقد اشتريت القرص و سمعتها لأيام بلا توقف، و من يلومني في ذلك؟ فقد كنت كالعاشق الذي احب فتاة من نظرة واحدة ، فتاة كانت ترمقه من شباك سيارتها و هو يمشي على الرصيف ، كانت النظرة الأولى و الأخيرة ثم وجدها صدفة بعد سنوات من الفراق!


 

الان كلما سمعت اغنية تعجبني في مكان عام ، اخرج هاتفي المحمول من حقيبتي و اسأله: Siri, what is this song؟

لترد علي سيري الحنونة برابط الأغنية على تطبيق أبل للموسيقى، و كلما سألت سيري هذا السؤال أتذكر قصتي هذه، و أحمد الله على نعمة التكنلوجيا، ثم أتحسر على زمن كانت صعوبة الوصول الي المعلومة بحد ذاتها متعة كبيرة و تملأ حياتك بقصص طريفة من نوع "وجدتها" لأرخميدس!



 
 
 

Kommentarer


أحدث المقالات

للاشترك في النشرة البريدية

للإشترك في النشرة البريدية

© 2023 by Design for Life.

Proudly created with Wix.com

bottom of page