أؤمن أن الفترة التي نعيشها الان فريدة جداً، لكل منا قصته الخاصة مع كوفيد ١٩، قد تطول هذه الجائحة و يصبح غريبها معتاداً، لذا حري بنا أن نتشارك غرابتها بيننا الآن قبل أن نألفها.
شاركتكم في تدوينتي السابقة تجربتي مع الولادة اثناء الجائحة، و هي تجربة فريدة اكتشفت بعدما شاركتها أن كثيرات مثلي عانين الأمرَّين من الولادة وحيدة في المستشفى، و بعضهن من فترة النفاس وحيدة مع طفلها، و أخريات ولدن لوحدهن في الغربة تماماً مثلي، من المؤكد أن لكل واحدة منهن تجربتها المميزة في فترة نفاسها و طريقتها الخاصة لتخطي هذه المرحلة الصعبة الأولية من الأمومة.
خلال الأربعين يوماً التي تلت ولادتي، حُجِرت في المنزل مع زوجي و طفلتي دانة ذات الاربع سنوات و نصف و منصور المولود للتو. كانت مدينة ملبورن لا تزال تحت المرحلة الثالثة من حظر التجول. كنت متخوفة ان يؤثر ذلك الوضع سلباً على صحتي النفسية، خصوصاً أنه لي تجربة سابقة مع إكتئاب ما بعد الولادة. ما قبل الجائحة كانت لدي خطة واضحة لتفادي الإكتئاب و لكن الجائحة بددت جميع خططي!
بعد إنتهاء فترة النفاس، أحب ان أطمئنكم انها لم تكن بالسوء الذي تخيلته! بالرغم من وجود بعض الليالي المظلمة، كان هناك أيام استمتعت بها فعلا.
و على غرار مباهج مها البشر الشهرية، اسرد لكم بعضاً مما ابهجني في تلك الفترة:
١. مولودي الصغير منصور الذي أكن له كل الإحترام و التقدير لأنه كان رحيماً بأمه و لم يتعبني كثيراً بالبكاء و الصراخ، لعل ذلك بسبب أنني أم للمرة الثانية و لدي خبرة لا بأس بها في التعامل مع المواليد، و ربما لأنني مررت بتجربة ليست بالهينة مع اخته عندما كانت في عمره فكانت توقعاتي مختلفة، أياً كانت الأسباب، اقتنعت الآن أن لكل طفل شخصية مختلفة تظهر في أيامه الأولى.
٢. مؤازرة صديقات الغربة بالرغم من فرض الحظر،غمروني بكرمهم و سؤالهم عني الذي أثلج صدري و أسعدني.
٣. روتين صباحي منعش، حتى لو كانت ليلتي صعبة و نومي متقطع بسبب الرضاعة، فأنا أستيقظ كل صباح قبل الساعة الثامنة مع دانة، أتحمم بمنتجات ذات رائحة زكية و أضع مساحيق التجميل ثم أحضر إفطاراً بسيطاً و أستمتع بشرب القهوة الساخنة التي يحضرها زوجي يومياً من المقهى المجاور على سبيل الرفاهية.
٤. بدأت بالإستمتاع بالتدوين النقطي او ما يسمى بالـBullet Journal، اشتريت مجموعة ألوان مائية و فرشاة من محل
فنانين بسعر زهيد و دفتر، كنت كل يوم أضع خطط من ابسط ما يكون، و من ضمنها هدف بعيد عن مهام الأمومة، كأن امشي مدة نصف ساعة او أن أرتب الزهور التي وصلتني من صديقتي، أي شيء يشعرني بالإنجاز بعيداً عن ضوضاء الأطفال.
٥. صادف نفاسي شهر رمضان و لكي لا أفقد روحانية الشهر، صرت اقرأ كل يوم سورة بشكل مختلف، اعتمدت على كتاب تفسير بسيط ، أتمعن في المعاني و المغزى أكثر من مجرد القراءة و كان ذلك مختلفاً تماماً عما تعودته.
٦. مسلسل كوميدي مصري أسمه بمية وش (بمئة وجه لمن لا يتقن اللهجة المصرية).
٧. و لأن فترة نفاسي أيضاً صادفت وقت عيد الأم في أستراليا، استقبلت هدية لطيفة جداً من بلدية/محافظة الحي و كانت عبارة
عن صندوق أنيق يحتوي على مستلزمات للأم و المولود مثل علبة فيها ١٢ نوع مختلف من الشاي، لوح شوكولاتة داكنة مع نكهة نعناع منعشة، بسكويت للأمهات المرضعات،زيت مغذي للبشرة في علبة زجاجية صغيرة، كوب شرب للأطفال، سائل غسيل لملابس الأطفال، فوطتان صغيرتان ناعمتان مصنوعتان من القطن الطبيعي، لفتي مناديل حمام على سبيل الدعابة، فوط نسائية لما بعد الولادة و زهور مجففة مع بطاقة مصممة خصيصاً لنا و مكتوب عليها كلام رقيق أدخل البهجة في نفسي.
٨. أهم ما ساعدني في تلك الفترة هو نظام رعاية الأم و الطفل الموجود في أستراليا و الذي تستفيد منه كل أم تضع مولوداً. أتصلت بي ممرضة خلال الأسبوع الثاني من ولادتي و اختبرت صحتي النفسية بسرد عدة اسئلة، و عندما اتضح لها انني أعاني من تجربة سابقة مع الإكتئاب كثفت الإتصالات من مرة كل أسبوعين الى مرة كل أسبوع، ثم نظمت لقاءاً مع الأمهات الجديدات في المنطقة المحيطة بي، و حَرَصت أن أحضر و أستمتع بيومي و أبني علاقات مع أمهات يمررن بنفس الظروف، عن طريق الممرضة اللطيفة تواصلت معي أم تسكن على بعد شارعين من منزلي، لديها طفلان بعمر أطفالي،تبادلنا بعض الخبرات وتشاركنا الكثير من الحلطمة!
الجميل في هذا التآزر المجتمعي انه يحسسكِ انكِ لستِ وحدك تتخبطين في غياهب الأمومة، فأغلب الأمهات تطغى عليهن مشاعر الذنب اذا نسين تغيير حفاظ أطفالهن و وجدن جلودهم محمرة، و كثيراتٌ مثلكِ يغلبهن الأسى و الحزن بعد ليلةٍ حافلةٍ بالبكاء و العويل، و سعيدات الحظ -أمثالي- هن من يتهن في متاهات غيرة الطفل الأكبر و التغيرات السلوكية التي لا تعد و لا تحصى، لكن عندما تقابلك أم لأطفال كبار، تذكرك أن هذا الوقت الصعب سيمضي و لن تتذكري منه سوى ضحكات هؤلاء الأطفال و لحظاتهم الجميلة.
بعد فترة النفاس و محاولات التعود على روتيني و حياتي الجديدة، جاء ما قلبها رأساً على عقب مرة أخرى، فقد قررت أن أغامر و أركب الطائرة مع طفلي و أعود للرياض، و لكن هذا حديث ذو شجون سأقصه في تدوينة أخرى.
*جميع الصور بعدسة راكان